فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

79 سورة النازعات:
نزولها: مكية.
نزلت بعد سورة (النبأ).
عدد آياتها: ست وأربعون آية.
عدد كلماتها: مائة وتسع وسبعون كلمة.
عدد حروفها: سبعمائة وثلاثة وخمسون حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
ختمت سورة (النبأ) بهذا النذير الذي يلقى به في وجه المكذبين باليوم الآخر، وبما يلقاهم منه من بلاء، حتى إنه ليتمنى الكافر يومئذ أن يكون مغيّبا في التراب، غائصا في أعماقه، من هول ما يراه..
وقد جاءت سورة (النازعات) مفتتحة بهذه الأقسام، على أن هذا اليوم واقع لا شك فيه، ولم يذكر لهذه الأقسام جواب، لأن جوابها قد سبقها، في قوله تعالى: {إنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً}... الآية أي أن هذا العذاب القريب الذي أنذرنا كم به واقع، وحقّ {النازعات غرقاً وَالناشطات نَشْطاً}.. الآيات.
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 14) [النازعات (79): الآيات 1- 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَالنازعات غرقاً (1) وَالناشطات نَشْطاً (2) وَالسابحات سَبْحاً (3) فالسابقات سَبْقاً (4) فالمدبرات أَمْراً (5) يوم ترجف الراجفة (6) تَتْبَعُهَا الرادفة (7) قُلُوبٌ يومئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعة (9) يَقولونَ أإنا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نخرة (11) قالوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرة (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)}.
قوله تعالى: {وَالنازعات غرقاً وَالناشطات نَشْطاً وَالسابحات سَبْحاً فالسابقات سَبْقاً فالمدبرات أَمْراً}.
يقول الأستاذ الإمام (محمد عبده) رحمه اللّه، عن هذه الأقسام التي أقسم اللّه سبحانه وتعالى بها من مخلوقاته- يقول: جاء في القرآن الكريم ضروب من القسم، بالأزمنة والأمكنة والأشياء.. والقسم إنما يكون بشيء يخشى المقسم إذا حنث في حلفه به أن يقع تحت للؤاخذة- نعوذ باللّه أن يتوهم شيء من هذا في جانب اللّه- وما كان اللّه جل شأنه ليحتاج في تأكيد أخباره إلى القسم بما هو من صنع قدرته، فليس لشيء في الوجود قدر إذا نسب إلى قدره تعالى، الذي لا يقدره القادرون، بل لا وجود لكائن إذا قيس إلى وجوده- سبحانه- إلا لأنه انبسط عليه شعاع من أشعة ظهوره جل شأنه.
ولهذا، قد يسأل السائل عن هذا النوع من الخبر الذي اختص به القرآن وكيف يوجد في كلام اللّه؟
فيجاب، بأنك إذا رجعت إلى جميع ما أقسم اللّه به، وجدته إما شيئا أنكره بعض الناس، أو احتقره لغفلته عن فائدته، أو ذهل عن موضع العبرة فيه، وعمى عن حكمة اللّه في خلقه، أو انعكس عليه الرأى في أمره، فاعتقد فيه غير الحق الذي قرر اللّه شأنه عليه- فيقسم اللّه به، إما لتقرير وجوده في عقل من ينكره، أو تعظيم شأنه في نفس من يحقره، أو تنبيه الشعور إلى ما فيه عند من لا يذكره، أو لقلب الاعتقاد في قلب من أضله الوهم، أو خانه الفهم....
ومن ذلك النجوم.. قوم يحقرونها لأنها من جملة عالم المادة، أو يغفلون عن حكمة اللّه فيها، وما ناط بها من المصالح، وآخرون يعتقدونها آلهة تتصرف في الأكوان السفلية تصرّف الرب في المربوب، فيقسم اللّه بأوصاف تدل على أنها من المخلوقات، التي تصرّفها القدرة الإلهية، وليس فيها شيء من صفات الألوهية...
ثم يقول الإمام: وهناك أمر يجب التنبيه عليه، وهو أن من الأديان السابقة على دين الإسلام، ما ظن أهله أن هذا الكون الجسماني، وما فيه من نور وظلمة، وأجرام، وأعراض- إنما هو كون مادى، لم يشأ اللّه كونه إلا ليكون حبسا للأنفس، وفتنة للأرواح، فمن طلب رضا اللّه، فليعرض عنه، وليبعد عن طيباته، وليأخذ بدنه بضرب من الإعنات والتعذيب وأصناف الحرمان، وليغمض عينيه عن النظر إلى شيء مما يشتمل عليه هذا الكون الفاسد في زعمه- اللهم إلا على نية مقته، والهروب منه..
فأقسم اللّه بكثير من هذه الكائنات، ليبين مقدار عنايته بها، وأنه لا يغضبه من عباده أن يتمتعوا بما متعهم به منها، متى أدركوا حكمة اللّه في هذا المتاع، ووقفوا عند حدوده في الانتفاع.
وقد رأينا أن ننقل رأى الإمام في هذه الأقسام التي أقسم اللّه سبحانه بها في القرآن، لأننا لم نجد قولا خيرا من هذا القول، ولا أوضح منه في هذا المقام.
قوله تعالى: {وَالنازعات غرقاً} اختلف المفسرون- كشأنهم دائما فيما يحتمل التأويل والتخريج- فلم يجتمعوا على رأى في مدلول كلمة {النازعات}.
والرأى عندنا- واللّه أعلم- أنها هي النجوم البعيدة، الغائرة، الغارقة في أطباق السماء العليا..
فالنزع: بمعنى الانطلاق، والنزوح البعيد..
والغرق: بمعنى الإغراق في الأمر، ومجاوزة الحدود..
{وَالناشطات نَشْطاً} هي النجوم، القريبة- نسبيّا،- منّا، فنرى لها حركات ظاهرة، على خلاف النجوم، الغارقة في أجواء السموات العلا، حيث تبدو وكأنها مقيدة في أماكنها، أما النجوم القريبة، فتظهر عليها الحركة، وتبدو كأنها نشطت من عقالها..
{وَالسابحات سَبْحاً} هي الكواكب، المطلة علينا في سماء الدنيا، كالشمس، والقمر، والمشترى والمريخ، وزحل، وغيرها.
فهذه الكواكب لقربها منا، نراها سابحة في الجو، كما تسبح الطيور..
ـ {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (38: يس)..
{فالسابقات سَبْقاً}.. هي هذه الكواكب السابحة سبحا، وهى- كما يبدو من ظاهر حركاتها- في سباق مع بعضها، حيث ترى الشمس مرة أمام القمر، ويرى القمر مرة أمامها..
{فالمدبرات أَمْراً}..
هى أيضا نفس هذه الكواكب، السابحات سبحا، والسابقات سبقا..
إنها في تعاملنا معها، تضبط الزمن، ساعات، وأياما، وشهورا..
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ} (12: الإسراء)..
وتدبير هذه الكواكب لأمورنا، هو فيما يظهر من آثارها في حياتنا، من حرّ وبرد، ومن هبوب رياح، ونزول أمطار، وإنضاج ثمار، ومدّ وجزر في البحار، وغير ذلك مما نشهده من حركة الشمس والقمر، وما يتبع هذه الحركة من آثار في عالمنا الأرضى، برّا، وبحرا، وجوّا..
قوله تعالى: {يوم ترجف الراجفة تَتْبَعُهَا الرادفة..}.
ليس هذا جواب القسم، فجواب القسم- كما قلنا- هو مادل عليه ختام سورة النبأ، أما هذا فهو بيان لما يجرى في يوم القيامة، الذي جاء القسم لتوكيده، الأمر الذي يقتضى التسليم به، فلم يبق إلا بيان ما يحدث فيه..
و{الراجفة}: الأرض، والرادفة السماء..
فالأرض ترجف يوم القيامة، ثم تتبعها السماء، فيما يقع فيها من أحداث هذا اليوم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {يوم تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ} (48: إبراهيم)..
وقيل: الراجفة: النفخة الأولى، وهى صعقة الموت: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ} (68: الزمر)..
والرادفة: النفخة الثانية، وهى نفخة البعث: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ} (68: الزمر).. وجملة {تتبعها الرادفة} حال من {الراجفة}..
وقوله تعالى: {قُلُوبٌ يومئِذٍ واجِفَةٌ}..
الواجفة: الخائفة، المذعورة: المضطربة.. والوجيف: ضرب من السير السريع المضطرب.
وهو إخبار عن حال المشركين الذين يكذبون بيوم الدين، وذلك حين تطلع عليهم أمارات الساعة، وإرهاصاتها..
وفى الإخبار عن القلوب، دون أصحابها، إشارة إلى أن القلوب في هذا اليوم، هي التي تتلقى هذه الأحداث، وتتفاعل بها، وأن الإنسان في هذا اليوم قد استحال إلى قلب واجف مضطرب، كل جارحة فيه، وكل عضو من أعضائه، قد صار قلبا، يدرك، ويشعر، وينفعل.. وذلك من شدة وقع الأحداث، التي يتنبه لها كيان الإنسان كله.. وفى تنكير القلوب، إشارة إلى أنها قلوب غير تلك القلوب التي عهدها الناس، إنها هذا الإنسان المجتمع فيها بكل أعضائه وجوارحه.
قوله تعالى: {أَبْصارُها خاشِعة}..
أي أبصار هذه القلوب أو أبصار أصحابها، إذ لا فرق بين الإنسان وقلبه يومئذ.. والخاشعة الذليلة.. وإنما أوقع الذلّ على الأبصار، لأنها هي المرآة التي تتجلى على صفحتها أحوال الإنسان، وما يقع في القلب من مسرات ومساءات..
قوله تعالى: {يَقولونَ أإنا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة أَإِذا كُنَّا عِظاماً نخرة}؟.
الحافرة: الحياة الأولى التي كان عليها الإنسان.. يقال رجع إلى حافرته، أي إلى الطريق الذي جاء منه..
والفعل {يقولون} هو الناصب للظرف: {يوم ترجف الراجفة} أي يوم ترجف الراجفة، متبوعة بالرادفة، متبوعة بقلوب يومئذ واجفة، أبصارها خاشعة- في هذا اليوم يقول المشركون: {أإنا لمردودون في الحافرة} أي أنردّ إلى الحياة الدنيا مرة أخرى بعد أن نموت، ونتحول إلى عظام بالية؟ إن هذه الأحداث لتشير إلى أن هناك بعثا وحياة بعد الموت!! لقد قال الذين يحدثوننا عن يوم القيامة إن هناك إرهاصات تسبقه، وهذه هي الإرهاصات.. فهل يقع البعث حقا؟ إن ذلك مما تشهد له هذه الأحداث!.
وهكذا تتردد في صدورهم الخواطر المزعجة، والوساوس المفزعة.
قوله تعالى: {قالوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرة}..
أي عندئذ، وبعد أن يعاين المشركون أمارات الساعة، وهم في هذه الدنيا، وبعد أن يتبين لهم أن أمر البعث جدّ لا هزل، وأنه لا شكّ واقع- عندئذ {قالوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرة} أي رجعة قد خسرنا فيها أنفسنا، إذ لم نكن نتوقعها، ولم نعمل لها حسابا..
قوله تعالى: {فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ}.
{هى} ضمير الشأن، أي فإنما الحال والشأن زجرة واحدة، أي صيحة واحدة، أو نفخة واحدة..
{فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} أي فإذا هم على ظهر الأرض..
والساهرة: الأرض، وسميت ساهرة، لأنه لا نوم للناس يومئذ فيها، بل هم في سهر دائم، بعد مبعثهم من نومهم في القبور.. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَالنازعات غرقاً (1)}
ابتدئت بالقسَم بمخلوقات ذات صفات عظيمة قَسَماً مراداً منه تحقيقُ ما بعده من الخبر وفي هذا القسَم تهويل المقسم به.
وهذه الأمور الخمسة المقسم بها جُموع جَرى لفظها على صيغة الجمع بألف وتاء لأنها في تأويل جَماعات تتحقق فيها الصفات المجموعة، فهي جماعات، نازعات، ناشطات، سابحات، سابقات، مدبِّرات، فتلك صفات لموصوفات محذوفة تدلّ عليها الأوصاف الصالحة لها.
فيجوز أن تكون صفاتٍ لموصوفات من نوع واحد له أصناف تميزها تلك الصفات.
ويجوز أن تكون صفات لموصوفات مختلفة الأنواع بأن تكون كل صفة خاصيَّةً من خواصّ نوع من الموجودات العظيمة قوامُه بتلك الصفة.
والذي يقتضيه غالب الاستعمال أن المتعاطفات بالواو صفات مستقلة لموصوفات مختلفة أنواع أو أصناف، أو لموصوف واحد له أحوال متعددة، وأنَّ المعطوفاتِ بالفاء صفات متفرعة عن الوصف الذي عطفت عليه بالفاء، فهي صفات متعددة متفرّع بعضها عن بعض لموصوف واحد فيكون قَسماً بتلك الأحوال العظيمة باعتبار موصوفاتها.
وللسلف من المفسرين أقوال في تعيين موصوفات هذه الأوصاف وفي تفسير معاني الأوصاف.
وأحسن الوجوه على الجملة أن كلّ صفة مما عطف بالواو مراداً بها موصوف غير المراد بموصوف الصفة الأخرى، وأن كل صفة عطفت بالفاء أن تكون حالةً أخرى للموصوف المعطوف بالواو كما تقدم.
وسنتعمد في ذلك أظهر الوجوه وأنظَمها ونذكر ما في ذلك من الاختلاف ليكون الناظر على سعَةِ بصيرةٍ.
وهذا الإِجمال مقصود لتذهب أفهام السامعين كلَّ مذهب ممكن، فتكثر خطور المعاني في الأذهان، وتتكرر الموعظة والعبرة باعتبار وقْع كل معنى في نفس له فيها أشدُّ وقْعٍ وذلك من وفرة المعاني مع إيجاز الألفاظ.
فـ: {النازعات}: وصف مشتق من النزع ومعاني النزع كثيرة كلها ترجع إلى الإِخراج والجذب فمنه حقيقة ومنه مجاز.
فيحتمل أن يكون {النازعات} جماعات من الملائكة وهم الموكّلون بقبض الأرواح، فالنزع هو إخراج الروح من الجسد شبه بنزع الدلو من البئر أو الركية، ومنهم قولهم في المحْتضَر هو في النزع.
وأجريت صفتهم على صيغة التأنيث بتأويل الجماعة أو الطوائف كقوله تعالى: {قالت الأعراب آمنا} [الحجرات: 14].
وروي هذا عن علي وابن مسعود وابن عباس ومجاهد ومسروق وابن جبير والسدّي فأقسم الله بالملائكة لأنها من أشرف المخلوقات، وخصها بهذا الوصف الذي هو من تصرفاتها تذكيراً للمشركين إذ هم في غفلة عن الآخرة وما بعد الموت، ولأنهم شديدٌ تعلقهم بالحياة كما قال تعالى لمَّا ذكر اليهود: {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا} [البقرة: 96] فالمشركين مَثَل في حب الحياة ففي القسم بملائكة قبض الأرواح عظة لهم وعبرة.
والقسَم على هذا الوجه مناسب للغرض الأهم من السورة وهو إثبات البعث لأن الموت أول منازل الآخرة فهذا من براعة الاستهلال.
و{غرقاً}: اسم مصدر أغرق، وأصله إغراقاً، جيء به مجرداً عن الهمزة فعومل معاملة مصدر الثلاثي المتعدّي مع أنه لا يوجد غرِق متعدياً ولا أن مصدره مفتوح عين الكلمة لكنه لما جعل عوضاً عن مصدر أغرق وحذفت منه الزوائد قدّر فعله بعد حذف الزوائد متعدياً.
ولو قلنا: إنه سكنت عينه تخفيفاً ورعياً للمزاوجة مع {نشطاً}، و{سبحا}، و{سبقاً}، و{أمراً} لكان أرقب لأن متحرك الوسط يخفف بالسكون، وهذا مصدر وصف به مصدر محذوف هو مفعول مطلق للنازعات، أي نَزْعاً غرقاً، أي مغرقاً، أي تنزع الأرواح من أقاصي الأجساد.
ويجوز أن تكون {النازعات} صفة للنجوم، أي تنزع من أفق إلى أفق، أي تسير، يقال: ينزع إلى الأمر الفلاني، أي يميل ويشتاق.
و{غرقاً}: تشبيه لغروب النجوم بالغَرْق في الماء وقاله الحسن وقتادة وأبو عبيدة وابن كيسان والأخفش، وهو على هذا متعين لأن يكون مصدر غَرِق وأن تسكين عينه تخفيف.
والقَسَم بالنجوم في هذه الحالة لأنها مَظهر من مظاهر القدرة الربانية كقوله تعالى: {والنجم إذا هوى} [النجم: 1].
ويحتمل أن تكون {النازعات} جماعات الرّماة بالسهام في الغزو يقال: نزع في القوس، إذا مدَّها عند وضع السهم فيها.
وروي هذا عن عكرمة وعطاء.
والغَرف: الإِغراق، أي استيفاء مدّ القوس بإغراق السهم فيها فيكون قسماً بالرماة من المسلمين الغزاة لشرفهم بأن غزوهم لتأييد دين الله، ولم تكن للمسلمين وهم بمكة يومئذٍ غزوات ولا كانوا يرجونها، فالقَسَم بها إنذار للمشركين بغزوة بدر التي كان فيها خضْد شوكتهم، فيكون من دلائل النبوءة ووعد وعده الله رسوله صلى الله عليه وسلم
و{الناشطات}: يجوز أن تكون الموصوفات بالنشاط، وهو قوة الانطلاق للعمل كالسير السريع، وينطلق النشاط على سير الثور الوحشي وسير البعير لقوة ذلك، فيكون الموصوف إما الكواكب السيارة على وجه التشبيه لدوام تنقلها في دوائرها وإما إبل الغزو، وإما الملائكة التي تسرع إلى تنفيذ ما أمر الله به من أمر التكوين وكلاهما على وجه الحقيقة، وأيَّاً مَا كان فعطفها على {النازعات} عطف نوع على نوع أو عطف صنف على صنف.
و{نشطاً} مصدر جاء على مصدر فَعَلَ المتعدي من باب نَصَر فتعين أن {الناشطات} فاعلات النشط فهو متعد.
وقد يكون مفضياً لإرادة النشاط الحقيقي لا المجازي.
ويجوز أن يكون التأكيد لتحقيق الوصف لا لرفع احتمال المجاز.
وعن ابن عباس: {الناشطات} الملائكة تَنشِيط نفوسَ المؤمنين، وعنه هي نفوس المؤمنين تنشط للخروج.
و{السابحات} صفة من السبح المجازي، وأصل السبح العَوْم وهو تنقل الجسم على وجه الماء مباشرة وهو هنا مستعار لسرعة الانتقال، فيجوز أن يكون المراد الملائكة السائرين في أجواء السماوات وآفاق الأرض، وروي عن علي بن أبي طالب.
ويجوز أن يراد خِيل الغزاة حين هجومها على العدوّ سريعة كسرعة السابح في الماء كالسابحات في قول امرئ القيس يصف فرساً:
مُسِحٌ إذا ما السابحات على الونى ** أثرن الغبار بالكديد المركَّل

وقيل: {السابحات} النجوم، وهو جار على قول من فسر النازعات بالنجوم، {وسبحا} مصدر مؤكد لإِفادة التحقيق مع التوسل إلى تنوينه للتعظيم، وعطف {فالسابقات} بالفاء يؤذن بأن هذه الصفة متفرعة عن التي قبلها لأنهم يعطفون بالفاء الصفات التي شأنها أن يتفرع بعضها عن بعض كما تقدم في قوله تعالى: {والصافات صفاً فالزاجرات زجراً فالتاليات ذكرا} [الصافات: 1 3] قول ابن زيابة:
يا لهفَ زَيَّابَةَ للحارث الصّ ** ابح فالغائم فالآيب

فلذلك {فالسابقات} هي السابقات من {السابحات}.
والسبق: تجاوز السائر من يَسير معه ووصوله إلى المكان المسير إليه قبله.
ويطلق السبق على سرعة الوصول من دون وجود سائر مع السابق قال تعالى: {فاستبقوا الخيرات} [البقرة: 148] وقال: {أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} [المؤمنون: 61].
ويطلق السبق على الغلب والقهر، ومنه قوله تعالى: {أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا} [العنكبوت: 4] وقول مُرة بن عداء الفقعسي:
كأنكَ لم تُسْبَق من الدهر ليلةً ** إذا أنتَ أدْرَكت الذي كنتَ تطلُب

فقوله تعالى: {فالسابقات سبقاً} يصلح للحمل على هذه المعاني على اختلاف محامل وصف {السابحات} بما يناسب كل احتمال على حِيالِه بأن يراد السائرات سيراً سريعاً فيما تعلمه، أو المبادرات.
وإذا كان {السابحات} بمعنى الخيل كان {السابقات} إن حمل على معنى المسرعات كناية عن عدم مبالاة الفرسان بعدوّهم وحرصهم على الوصول إلى أرض العدوّ، أو على معنى غلبهم أعداءهم.
وأكد بالمصدر المرادف لمعناه وهو {سبقا} للتأكيد ولدلالة التنكير على عظم ذلك السبق.
و{المدبرات}: الموصوفةُ بالتدبير.
والتدبير: جَوَلان الفكر في عواقب الأشياء وبإجراء الأعمال على ما يليق بما توجد له فإن كانت {السابحات} جماعات الملائكة، فمعنى تدبيرها تنفيذ ما نيط بعهدتها على أكمل ما أذنت به فعبر عن ذلك بالتدبير للأمور لأنه يشبه فعل المدبر المتثبت.
وإن كانت {السابحات} خيلَ الغزاة فالمراد بالتدبير: تدبير مكائد الحرب من كرّ، وفر، وغارة، وقتل، وأسر، ولحاق للفارين، أو ثبات بالمكان.
وإسناد التدبير إلى {السابحات} على هذا الوجه مجاز عقلي لأن التدبير للفُرسان وإنما الخيل وسائل لتنفيذ التدبير، كما قال تعالى: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق} [الحج: 27]، فأسند الإِتيان إلى ضمير {كل ضامر} من الإِبل لأن إتيان الحجيج من الفجاج العميقة يكون بسير الإِبل.
وفي هذا المجاز إيماء إلى حِذق الخيل وسرعة فهمها مقاصد فرسانها حتى كأنها هي المدبرة لما دبره فرسانها.
والأمر: الشأن والغرض المهم وتنوينه للتعظيم، وإفراده لإِرادة الجنس، أي أموراً.
وينتظم من مجموع صفات {النازعات}، و{الناشطات}، و{السابحات}، إذا فهم منها جماعات الرماة والجَمَّالَة والفرساننِ أن يكون إشارة إلى أصناف المقاتلين من مُشاة وهم الرماة بالقِسي، وفرسان على الخيل وكانت الرماة تمشي قدَّام الفرسان تنضح عنهم بالنبال حتى يبلغوا إلى مكان الملحمة.
قال إنيْف بن زَبَّان الطائي:
وتَحْتَ نحور الخَيْل خرْشَفُ رَجْلَةٍ ** تُتَاح لغِرَّاتِ القُلوب نِبَالُها

ولتحمل الآية لهذه الاحتمالات كانت تعريضاً بتهديد المشركين بحرب تشن عليهم وهي غزوة فتح مكة أو غزوة بدر مثل سورة (والعاديات) وأضرابها، وهي من دلائل نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم إذ كانت هذه التهديدات صَريحُها وتعريضُها في مدة مقامة صلى الله عليه وسلم بمكة والمسلمون في ضعف فحصل من هذا القَسم تعريض بعذاب في الدنيا.
وجملة {يوم ترجف الراجفة} إلى {خاشعة} جوابُ القسم وصريحُ الكلام موعظة.
والمقصود منه لازمه وهو وقوع البعث لأن القلوب لا تكون إلا في أجسام.
وقد علم أن المراد بـ: {يوم ترجف الراجفة} هو يوم القيامة لأنه قد عُرِّف بمثل هذه الأحوال في آيات كثيرة مما سبق نزوله مثل قوله: {إذا رجت الأرض} فكان في هذا الجواب تهويل ليوم البعث وفي طيه تحقيق وقوعه فحصل إيجاز في الكلام جامع بين الإِنذار بوقوعه والتحذير مما يجري فيه.
و{يوم ترجف الراجفة} ظرف متعلق بـ: {واجفة} فآل إلى أن المقسم عليه المراد تحقيقه هو وقوع البعث بأسلوب أوقع في نفوس السامعين المنكرين من أسلوب التصريح بجواب القسم، إذ دل على المقسم عليه بعض أحواله التي هي من أهواله فكان في جواب القسم إنذار.
ولم تقرن جملة الجواب بلام جواب القسم لبعد ما بين الجواب وبين القسم بطول جملة القسم، فيظهر لي من استعمال البلغاء أنه إذا بعد ما بين القسم وبين الجواب لا يأتون بلام القسم في الجواب، ومن ذلك قوله تعالى: {والسماء ذات البروج} إلى {قتل أصحاب الأخدود} [البروج: 1 4].
ومثله كثير في القرآن فلا يؤتى بلام القسم في جوابه إلا إذا كان الجواب موالياً لجملة القسم نحو {وتالله لأكيدن أصنامكم} [الأنبياء: 57] {فوربك لنسألنهم أجمعين} [الحجر: 92]، ولأن جواب القسم إذا كان جملة اسمية لم يكثر اقترانه بلام الجواب ولم أر التصريح بجوازه ولا بمنعه، وإن كان صاحب (المغني) استظهر في مبحث لام الجواب في قوله تعالى: {ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند اللَّه خير} [البقرة: 103] أن اللام لام جواب قسم محذوف وليست لام جواب (لو) بدليل كون الجملة اسمية، والاسمية قليلة من جواب (لو) فلم يرَ جملة الجواب إذا كانت اسمية أن تقترن باللام.
وجعل صاحب (الكشاف) تبعاً للفراء وغيره جواب القسم محذوفاً تقديره: لتُبعثُنَّ.
وقُدم الظرف على متعلقة لأن ذلك الظرف هو الأهمّ في جواب القَسَم لأنه المقصود إثبات وقوعه، فتقديم الظرف للاهتمام به والعناية به فإنه لما أكد الكلام بالقسم شمل التأكيدُ متعلقات الخبر التي منها ذلك الظرف، والتأكيد اهتمام، ثم أكد ذلك الظرف في الأثناء بقوله: {يومئذ} الذي هو يوم ترجف الراجفة فحصلت عناية عظيمة بهذا الخبر.
والرجف: الاضطراب والاهتزاز وفعله من باب نصَر.
وظاهر كلام أهل اللغة أنه فعل قاصر ولم أر من قال: إنه يستعمل متعدياً، فلذلك يجوز أن يكون إسناد {ترجف} إلى {الراجفة} حقيقياً، فالمراد بـ: {الراجفة}: الأرض لأنها تضطّرب وتهتزّ بالزلازل التي تحصل عند فناء العالم الدنيوي والمصير إلى العالم الأخروي قال تعالى: {يوم ترجف الأرض والجبال} [المزمل: 14] وقال: {إذا رجت الأرض رجاً} [الواقعة: 4] وتأنيث {الراجفة} لأنها الأرض، وحينئذ فمعنى {تتبعها الرادفة} أن رجفة أخرى تتبع الرجفة السابقة لأن صفة {الراجفة} تقتضي وقوع رجفة، فالرادفة رجفة ثانية تتبع الرجفة الأولى.
ويجوز أن يكون إسناد {ترجف} إلى {الراجفة} مجازاً عقلياً، أطلق {الراجفة} على سبب الرجف.
فالمراد بـ: {الراجفة} الصيحة والزلزلة التي ترجف الأرض بسببها جعلت هي الراجفة مبالغة كقولهم: عيشة راضية، وهذا هو المناسب لقوله: {تتبعها الرادفة} أي تتبع تلك الراجفة، أي مسبّبة الرجف رادفة، أي واقعة بعدها.
ويجوز أن يكون الرجف مستعاراً لشدة الصوت فشبه الصوت الشديد بالرجف وهو التزلزل.
وتأنيث {الراجفة} على هذا لتأويلها بالواقعة أو الحادثة.
و{تتبعها الرادفة}: التالية، يقال: ردف بمعنى تبع، والرديف: التابع لغيره، قال تعالى: {أني معدكم بألف من الملائكة مردفين} [الأنفال: 9]، أي تتبع الرجفة الأولى، ثانية، فالمراد: رادفة من جنسها وهما النفختان اللتان في قوله تعالى: {ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء اللَّه ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} [الزمر: 68].
وجملة {تتبعها الرادفة} حال من {الراجفة}.
وتنكير {قلوب} للتكثير، أي قلوب كثيرة ولذلك وقع مبتدأ وهو نكرة لإِرادة النوعية.
والمراد: قلوب المشركين الذين كانوا يجحدون البعث فإنهم إذا قاموا فعلموا أن ما وعدهم الرسول صلى الله عليه وسلم به حق توقّعوا ما كان يحذرهم منه من عقاب إنكار البعث والشرك وغير ذلك من أحوالهم.
فأما قلوب المؤمنين فإن فيها اطمئناناً متفاوتاً بحسب تفاوتهم في التقوى.
والخوف يومئذ وإن كان لا يخلو منه أحد إلا أن أشدّه خوف الذين يوقنون بسوء المصير، ويعلمون أنهم كانوا ضالين في الحياة الدنيا.
والواجفة: المضطربة من الخوف، يقال: وجف كضرف وجَفَّا ووجيفاً ووجوفاً، إذا اضطرب.
و{واجفة} خبر {قلوب}.
وجملة {أبصارها خاشعة} خبر ثان عن {قلوب} وقد زاد المرادَ من الوجيف بياناً قوله: {أبصارها خاشعة}، أي أبصار أصحاب القلوب.
والخشوع حقيقته: الخضوع والتذلل، وهو هيئة للإِنسان، ووصف الأبصار به مجاز في الانخفاض والنظرِ من طرْف خفي من شدة الهلع والخوف من فظيع ما تشاهده من سوء المعاملة قال تعالى: {خشعاً أبصارهم} في سورة اقتربت الساعة (7).
ومثله قوله تعالى: {ووجوه يومئذ باسرة} [القيامة: 24].
وإضافة (أبصار) إلى ضمير القلوب لأدنى ملابسة لأن الأبصار لأصحاب القلوب وكلاهما من جوارح الأجساد مثل قوله: {إلا عشية أو ضحاها} [النازعات: 46].
{يَقولونَ أإنا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة (10) أَإذَا كُنَّا عِظَامًا نخرة (11)}
استئناف إمَّا ابتدائيّ بعد جملة القَسَم وجوابه، لإفادة أن هؤلاء هم الذين سيكونون أصحاب القلوب الواجفة والأبصار الخاشعة يوم ترجف الراجفة.
وإما استئناف بياني لأن القَسَم وما بعده من الوعيد يثير سؤالاً في نفس السامع عن الداعي لهذا القسم فأجيب بـ: {يقولون أئنا لمرددون في الحافرة}، أي منكرون البعث، ولذلك سلك في حكاية هذا القول أسلوب الغيبة شأنَ المتحدِّث عن غير حاضر.
وضمير {يقولون} عائد إلى معلوم من السياق وهم الذين شُهروا بهذه المقالة ولا يخفون على المطلع على أحوالهم ومخاطباتهم وهم المشركون في تكذيبهم بالبعث.
والمُساق إليه الكلام كل من يتأتى منه سماعه من المسلمين وغيرهم.
ويجوز أن يكون الكلام مسوقاً إلى منكري البعث على طريقة الالتفاف.
وحُكي مقالهم بصيغة المضارع لإِفادة أنهم مستمرون عليه وأنه متجدد فيهم لا يرعوون عنه.
وللإِشعار بما في المضارع من استحضار حالتهم بتكرير هذا القول ليكون ذلك كناية عن التعجيب من قولهم هذا كقوله تعالى: {فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط} [هود: 74].
وقد علم السامع أنهم ما كرروا هذا القول إلا وقد قالوه فيما مضى.
وهذه المقالة صادرة منهم وهم في الدنيا فليس ضمير {يقولون} بعائد إلى {قلوب} من قوله تعالى: {قلوب يومئذ واجفة} [النازعات: 8].
وكانت عادتهم أن يلقوا الكلام الذي ينكرون فيه البعث بأسلوب الاستفهام إظهاراً لأنفسهم في مظهر المتردد السائل لقصد التهكم والتعجب من الأمر المستفهم عنه.
والمقصود: التكذيب لزعمهم أن حجة استحالة البعث ناهضة.
وجُعل الاستفهام التعجيبي داخلاً على جملة اسمية مؤكدة بـ: (إنَّ) وبلام الابتداء وتلك ثلاثة مؤكدات مقوية للخبر لإِفادة أنهم أتوا بما يُفيد التعجب من الخبر ومن شدة يقين المسلمين به، فهم يتعجبون من تصديق هذا الخبر فضلاً عن تحقيقه والإِيقان به.
والمَردُود: الشيء المرجَّع إلى صاحبه بعد الانتفاع به مثل العارية ورَدِّ ثمن المبيع عند التفاسخ أو التقابل، أي لَمُرْجَعون إلى الحياة، أي إنا لمبعوثون من قبورنا.
والمراد بـ: {الحافرة}: الحالة القديمة، يعني الحياة.
وإطلاقات {الحافرة} كثيرة في كلام العرب لا تتميز الحقيقة منها عن المجاز، والأظهر ما في (الكشاف): يقال رجَع فلان إلى حافرته، أي في طريقه التي جاء فيها فحَفَرها، أي أثّر فيها بمشْيه فيها جعل أثر قدميه حفراً أي لأن قدميه جعلتا فيها أثراً مثل الحفر، وأشار إلى أن وصف الطريق بأنها حافرة على معنى ذات حفر، وجُوز أن يكون على المجاز العقلي كقولهم: عيشة راضية، أي راض عائشُها، ويقولون: رجع إلى الحافرة، تمثيلاً لمن كان في حالة ففارقها، ثم رجع إليها فصار: رَجَعَ في الحافرة، ورُدّ إلى الحافرة، جارياً مجرى المثل.
ومنه قول الشاعر وهو عمران بن حطّان حسبما ظن ابن السيِّد البطليوسي في شرح (أدب الكتاب):
أحافرةً على صَلَع وشَيْب ** مَعَاذ اللَّهِ مِن سَفَهٍ وعار

ومن الأمثال قولهم: (النقد عند الحافرة)، أي إعطاء سبق الرهان للسابق عند وصوله إلى الأمد المعين للرّهان.
يريد: أرجوعا إلى الحافرة.
وظرف (إذا) في قوله: {إذا كنّا عظاماً نخرة} هو مناط التعجب وادعاءٌ الاستحالة، أي إذا صرنا عظاماً بالية فكيف نرجع أحياء.
و{إذا} متعلق بـ: {مردودون}.
و{نخرة} صفة مشتقة من قولهم: نَخِر العَظْم، إذا بَلِي فصار فارغ الوسط كالقصبة.
وتأنيث {نخرة} لأن موصوفه جمع تكسير، فوصفه يجري على التأنيث في الاستعمال.
هي همزة (إذا).
وقرأ بقية العشرة {أإذا} بهمزتين إحداهما مفتوحة همزة الاستفهام والثانية مكسورة هي همزة (إذا).
وهذا الاستفهام إنكاري مؤكد للاستفهام الأول للدلالة على أن هذه الحالة جديرة بزيادة إنكار الإِرجاع إلى الحياة بعد الموت، فهما إنكاران لإِظهار شدة إحالته.
وقرأ الجمهور {نخرة} بدون ألف بعد النون.
وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ورويس عن يعقوب وخلف {ناخرة} بالألف.
{قالوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خاسِرة (12)}
{قالوا} بدل اشتمال من جملة {يقولون أئنا لمردودون في الحافرة} [النازعات: 10].
وأعيد فعل القول لمقاصد منها الدلالة على أن قولهم هذا في غرض آخر غير القول الأول فالقول الأول قصدهم منه الإِنكار والإِبطال، والقول الثاني قصدوا منه الاستهزاء والتورك لأنهم لا يؤمنون بتلك الكرة فوصفهم إيّاها بـ: {خاسرة} من باب الفرض والتقدير، أي لو حصلت كرّة لكانت خاسرة ومنها دفع توهم أن تكون جملة {تلك إذن كرة خاسرة} استئنافاً من جانب الله تعالى.
وعبر عن قولهم هذا بصيغة الماضي دون المضارع على عكس {يقولون أئنا لمرددون في الحافرة} [النازعات: 10] لأن هذه المقالة قالوها استهزاء فليست مما يتكرر منهم بخلاف قولهم: {أئنا لمردودون في الحافرة} فإنه حجة ناهضة في زعمهم، فهذا مما يتكرر منهم في كل مقام.
وبذلك لم يكن المقصود التعجِيبَ من قولهم هذا لأن التعجيب يقتضي الإِنكار وكون كُرَّتهم، أي عودتهم إلى الحياة عودةً خاسرة أمر محقق لا ينكر لأنهم يعودون إلى الحياة خاسرين لا محالة.
و{تلك} إشارة إلى الرَّدة المستفادة من {مردودون} والإِشارة إليه باسم الإِشارة للمؤنث للإِخبار عنه بـ: {كرة}.
و{إذَنْ} جواب للكلام المتقدم، والتقدير: إذن تلك كرة خاسرة، فقدم {تلك} على حرف الجواب للعناية بالإِشارة.
والكرة: الواحدة من الكرّ، وهو الرجوع بعد الذهاب، أي رجْعة.
والخسران: أصله نقص مال التجارة التي هي لطلب الربح، أي زيادة المال فاستعير هنا لمصادفة المكروه غير المتوقع.
ووصف الكرّة بالخاسرة مجاز عقلي للمبالغة لأن الخاسر أصحابها.
والمعنى: إنا إذن خاسرون لتكذيبنا وتبيُّن صدق الذي أنذرنا بتلك الرجعة.
{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)}
الفاء فصيحة للتفريع على ما يفيدهُ قولهم {أإنا لمردودون في الحافرة أإذا كنا عظاماً نخرة} [النازعات: 9، 10] من إحالتهم الحياة بعد البِلى والفناء.
فتقدير الكلام: لا عجب في ذلك فما هي إلا زجرة واحدة فإذا أنتم حاضرون في الحشر.
وضمير {هي} ضمير القصة وهو ضمير الشأن.
واختير الضمير المؤنث ليحسن عوده إلى {زجرة}.
وهذا من أحسن استعمالات ضمير الشأن.
والقصر حقيقي مراد منه تأكيد الخبر بتنزيل السامع منزلة من يعتقد أن زجرة واحدة غير كافية في إحيائهم.
وفاء {فإذا هم بالساهرة} للتفريع على جملة {إنما هي زجرة واحدة}.
و(إذا) للمفاجأة، أي الحصول دون تأخير فحصل تأكيد معنى التفريع الذي أفادته الفاء وذلك يفيد عدم الترتب بين الزجرة والحصول في الساهرة.
والزَّجرة: المرَّة من الزجر، وهو الكلام الذي فيه أمر أو نهي في حالة غضب، يقال: زجر البعير، إذا صاح له لينهض أو يسير، وعبر بها هنا عن أمر الله بتكوين أجساد الناس الأموات تصويراً لما فيه من معنى التسخير لتعجيل التكوُّن.
وفيه مناسبة لإِحياء ما كان هامداً كما يُبعث البعير البارك بزجرة ينهض بها سريعاً خوفاً من زاجره.
وقد عبر عن ذلك بالصيحة في قوله تعالى: {يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج} [ق: 42] وهو الذي عبَّر عنه بالنفخ في الصُّور.
ووصفت الزجرة بواحدة تأكيداً لما في صيغة المرة من معنى الوحدة لئلا يتوهم أن إِفراده للنوعية، وهذه الزجرة هي النفخة الثانية التي في قوله تعالى: {ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} [الزمر: 68] فهي ثانية للتي قبلها، وهي {الرادفة} التي تقدم ذكرها آنفاً وإنما أريد بكونها واحدة أنها لا تُتبع بثانيةٍ لها، وقد وصفت بواحدة في صورة الحاقة بهذا الاعتبار.
والساهرة: الأرض المستوية البيضاء التي لا نبات فيها يُختار مثلُها لاجتماع الجموع ووضْعِ المغانم.
وأريد بها أرض يجعلها الله لجمع الناس للحشر.
والإِتيان بـ: (إذا) الفجائية للدلالة على سرعة حضورهم بهذا المكان عقب البعث.
وعطفها بالفاء لتحقيق ذلك المعنى الذي أفادته (إذا) لأن الجمع بين المفاجأة والتفريع أشد ما يعبر به عن السرعة مع إيجاز اللفظ.
والمعنى: أن الله يأمر بأمر التكوين بخلق أجسادٍ تحلّ فيها الأرواح التي كانت في الدنيا فتحضر في موقف الحشر للحساب بسرعة. اهـ.